بقلم عبدالله ناصر العتيبي
لا أحد يجادل في أن أميركا هي الدولة الأقوى في العالم حالياً. ولا أحد يجادل في أن أميركا هي من تقود العالم على المستويين التكنولوجي والعلمي في الوقت الراهن. ولا أحد يجادل في أن الديمقراطية الأميركية –برغم علّاتها في الآونة الأخيرة– هي المثال الأبرز على «حكم الشعب للشعب من أجل مصلحة الشعب» كما كان يقول الزعيم الجمهوري الكبير «إبراهام لينكون» كلما تلبسته «أميركيته» الصافية الخالية من أية أطماع خارجية!
لا أحد يجادل في أن عظمة أميركا وتفوقها في العقود الأخيرة، يعود لقدرة المؤسسات الفيدرالية فيها -على مدى أكثر من قرنين- على الموازنة بين حقوق المواطن الأميركي والمعارك السياسية الشرسة بين الحزبين «الجمهوري» و«الديمقراطي»، وهذا ما أفضى إلى حالة توازن صلبة سمحت بنشوء بيئات صالحة وداعمة للتطور السياسي والاقتصادي والثقافي والفني والعلمي والتكنولوجي وحتى الديني، فبرغم خلو الدستور الأميركي من أية إشارة إلى الدين، إلا أن الحالة الأميركية كانت -ولا تزال ربما- هي الأكثر تسامحاً مع الأديان مقارنة مع دول متقدمة أخرى حول العالم.
أميركا هي المثال الأبرز للدولة التي تحترم «حقوق مواطنيها وسكانها»، هذا عنوان لا جدال عليه، وليس هناك من يختلف معه، لكن محط الخلاف وموضع الجدال هو استخدام أميركا لملفات «حقوق الإنسان في دول العالم» كوسائل ضغط في سياستها الخارجية، من أجل تحقيق مصالح معينة.
النخبة السياسية في واشنطن ليست هي من أوجد نظام حقوق الإنسان في أميركا. هذه حقيقة، وليست هي من فرضت «حرية التعبير» و«حرية التفكير» و«حرية الاختيار» على الثقافة الأميركية، فكل هذه الفضائل هي من صنع النظام الاجتماعي المتطور. النظام الاجتماعي هو من قرر وجودها. وهو من اختار أدواتها. وهو من رسم آلياتها. وكل ما فعلته الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ واشنطن وحتى بايدن هو فقط حماية هذه الفضائل والعمل على أن تبقى متوزعة على مسطرة اجتماعية تشمل الجميع. الإدارات الأميركية منذ 200 سنة، وحتى اليوم مطلوب منها وجوباً تفعيل الحريات المنضبطة واحترام حقوق المواطن والساكن، لأن ذلك يحمي بالضرورة فرص نجاحها في الاقتراع المقبل، ولأن عدم القيام بهذه المهمة المقدسة يعني إسقاط النظام في بضعة إجراءات معروفة سلفاً.
وعلى المقلب الآخر، فإن «أميركا ما بعد الحرب العالمية الثانية» تتعامل مع ملفات حقوق الإنسان خارج حدودها، بثلاث منهجيات للحصول على ثلاث نتائج:
الأولى، انتهاك هذه الحقوق في بلدانها الأصلية وتمزيق مفرداتها بهدف السيطرة على «العقل والأرض»، كما كان يحدث في فيتنام والعراق وأفغانستان وغيرها من البلدان التي وقعت تحت الاحتلال الأميركي.
والثانية، الادعاء المتكرر – عبر الإعلام والإيجازات الصحفية وتقارير وزارة الخارجية- بالدفاع عن حقوق الإنسان في البلاد التي لا تتشابه قيمها مع القيم الأميركية، بهدف دفع الناخب المحلي (المؤمن بأميركيته) إلى الانحياز للحزب الحاكم.
والثالثة، التهديد بالتدخل المباشر في شؤون الدول التي تنتهك، بحسب المعايير الأميركية، حقوق الإنسان، وذلك من أجل الحصول على مكاسب سياسية أو اقتصادية.
مشكلة الأميركيين في عهودهم المتأخرة أنهم يرون أن من لا يشبههم هو مذنب بالضرورة، وعليه التوبة والرجوع عن معصية التمايز والاختلاف. مشكلتهم أنهم أعادوا تعريف المصطلحات الحقوقية بما يتناسب مع سياساتهم وقيمهم التي تتفق وتختلف مع سياسات وقيم الشعوب الأخرى، وعليهم إن أرادوا أن يكملوا عظمة ما أرساه آباؤهم الأوائل أن يروا أولاً اعوجاج رقبة البعير الذي يسكن في أجسادهم كما يقول المثل العربي البدوي.
نقلاً عن الاتحاد